فصل: تَعَذُّرُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ تَعَمُّدِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِالْعَجَمِيِّ الْمُتَرْجَمِ بِهِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسْمِيَتِهِ قُرْآنًا. كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى، وَبِوُجُوبِ أَدَاءِ سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا. وَبِوُجُوبِ تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لِذَلِكَ، وَهَذَا نَصُّ عِبَارَتِهِ (كَمَا فِي ص9 مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ الَّتِي مَعَ كِتَابِ الْأُمِ لَهُ):
فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا بَلَغَهُ جُهْدُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتْلُوَ بِهِ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَخْ.
هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ فِي كَوْنِ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيٌّ، وَكَتُبَ مَذْهَبَهُ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَسَائِرِ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْبَاعُهُ أَشُدُّهُمْ فِيهَا- أَلَيْسَ مِنَ الْعَجِيبِ مَعَ هَذَا أَنْ يَتَجَرَّأَ عَالِمٌ أَزْهَرِيٌّ فَيَعْزُوَا إِلَى رِوَايَةِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَأْتِي عَلَى إِطْلَاقِهِ:
(1) إِنَّ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ مُتَرْجَمًا إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ.
(2) وَإِنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وُعُدَّ مَا يَنْطِقُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا.
(3، 4) وَإِنَّهُ يَجُوزُ وُجُودُ جَمَاعَةٍ تُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ.
بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَغَيْرَهَا مِنَ السُّورِ مَا دَامُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ.
أَيْنَ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ التَّرْجَمَةَ وَأَبَاحَهَا لِلْأَعْجَمِيِّ؟ اللهُمَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ.
أَيْنَ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ إِقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ يَقْرَأُ إِمَامُهُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ إِلَخْ؟ وَعِبَارَتُهُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُ آنِفًا صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ عَجْزِ الْأَعْجَمِيِّ عَنِ الْإِفْصَاحِ وَلَوْ بِبَعْضِ الْفَاتِحَةِ عُذْرًا لَهُ دُونَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ مَعَهُ، وَعَدَمُ الْإِفْصَاحِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ شَيْءٌ وَالتَّرْجَمَةُ بِلِسَانٍ عَجَمِيٍّ شَيْءٌ آخَرُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ عِبَارَةَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَاصَّةٌ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ النُّطْقَ بِالْقُرْآنِ، وَمَا يُعْذَرُ بِهِ هُوَ وَمَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَجْزِ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ نَسْمَعُهُ بِآذَانِنَا مِمَّنْ يَتَعَلَّمُونَ لُغَةً غَيْرَ لُغَتِهِمْ وَلَا يُتْقِنُونَهَا مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْعَجَمِ، فَهُمْ يُحَرِّفُونَ وَيَلْحَنُونَ وَيَخْلِطُونَ أَلْفَاظًا مِنَ اللُّغَةِ الَّتِي يُجِيدُونَهَا بِاللُّغَةِ الَّتِي لَا يُجِيدُونَهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَنُعِيدُ الْقَوْلَ وَنُؤَكِّدُهُ بِأَنَّ تَعَمُّدَ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَةِ بِهِ لَا تَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْ أَحَدِ أَتْبَاعِهِ فِي مَذْهَبِهِ عِنْدَمَا شَرَحُوا كَلَامَهُ، وَفَصَّلُوا أَحْكَامَهُ، وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أَيِّ قَارِئٍ لَهُ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ.
(الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى وُجُوبِ فَهْمِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ فِيهَا وَفِي خَارِجِهَا صَرِيحَةٌ، وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهَا مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَتِمُّ أَدَاءُ هَذَا الْوَاجِبِ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَاتِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعَجَمِيَّةِ الَّتِي تُدِينُ بِالْإِسْلَامِ. وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْفَهْمَ وَالتَّدَبُّرَ وَمَا يُرَادُ بِهِمَا مِنَ الْخُشُوعِ وَالِاعْتِبَارِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِتَعَلُّمِ الْمُسْلِمِينَ لِلُغَةِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ لَا بِتَحْوِيلِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَى لُغَاتِهِمْ كُلِّهَا، كَمَا فَصَّلَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَةِ الْأُصُولِ، وَأَقَرَّهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ لَسَبْقِ الْإِجْمَاعِ وَجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً صَحِيحَةً تُؤَدِّي مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي وَالتَّأْثِيرِ كَمَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مُتَعَذِّرَةٌ وَمُسْتَلْزِمَةٌ لِتَغْيِيرِ كَلَامِ اللهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَسَنَدٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ تَابِعِينَ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى دُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى تَابِعًا لِلُغَاتِهِمْ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُؤْثِرَ الْمُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ لُغَةَ قَوْمِهِ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ الْعَجَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُزَاحِمُونَ الْعَرَبَ بِالْمَنَاكِبِ فِي تَلَقِّي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَعْرَابِ الْبَادِيَةِ، وَفِي جَمِيعِ عُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَآدَابِهَا كَعُلُومِ الشَّرِيعَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ بُرْهَانِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَمَا أَحْدَثَ التَّنَافُسَ بَيْنَ لُغَةِ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَلُغَةِ الْآبَاءِ مِنَ الْعَجَمِ إِلَّا بَعْضُ زَنَادِقَةِ الْفُرْسِ الْأَوَّلِينَ وَمَلَاحِدَةِ التُّرْكِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا قُدَمَاءُ مُسْلِمِي التُّرْكِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَفُنُونِهَا فَكَانَتْ آفَتُهُمُ الْجَهْلَ، فَالْخَوْفَ مِنْ عَوْدَةِ السُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ إِلَى الْعَرَبِ- وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعَدَّهُمْ لِقَبُولِ دَسَائِسِ الْإِفْرِنْجِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ الَّتِي قَوَّضَتْ سَلْطَنَتَهُمْ إِمْبِرَاطُورِيَّتَهُمُ الْعُظْمَى بِجَهْلِهِمْ.
(ثَانِيهِمَا) أَنَّ مَا لابد مِنْهُ مِنَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ وَبَعْضُ الْآيَاتِ أَوِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِحِفْظِهِ تَفْسِيرًا يَتَمَكَّنُ بِهِ مَنْ فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَالِاعْتِبَارِ بِهِ فَهُوَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرْجَمَتِهِ وَتَسْمِيَتِهَا كَلَامُ اللهِ كَذِبًا عَلَى اللهِ، وَخِلَافًا لِنَصِّ كِتَابِ اللهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ- فَضْلًا عَنْ تَرْجَمَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ.
(الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ) مَسْأَلَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانِهَا مِنْ قَبْلُ، وَنَزِيدُهَا هُنَا بَيَانًا فَنَقُولُ: لَئِنْ كَانَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَعَاجِمِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهَا أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَمَقَاصِدَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، وَذَلِكَ كَافٍ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ تَرْجَمَتَهُ كَتَأْثِيرِ أَصْلِهِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فِي إِقْنَاعِ الْعُقُولِ، وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اهْتِدَاءِ الْعَرَبِ، وَقَلْبِ طِبَاعِهِمْ، وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَارْتِفَاعِ رَايَتِهِمْ، وَخُضُوعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ لَهُمْ. وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْمَقَاصِدُ لِلْأَعَاجِمِ بِلُغَاتِهِمْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ كُلُّ أَصْلٍ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ مَعَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، بِبَيَانِ مَعَانِي نُصُوصِهِمَا بِالتَّفْسِيرِ، وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ- لَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِقْنَاعِ، وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِلدَّعْوَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا مُسْلِمُو خَيْرِ الْقُرُونِ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَصْدَقُ الشُّهُودِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ- وَهِيَ سِيرَتُهُمُ الْفُضْلَى فِي فُتُوحِهِمْ وَعَدْلِهِمُ الْمُطْلَقِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَصَلَاحِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَبِذَلِكَ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَسَادَ أَهْلُهُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ بِسُرْعَةٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ فِي التَّارِيخِ.
فَإِسْلَامُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ بِتَأْثِيرِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجِهَادِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (17: 9)، {نَهْدَيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (42: 52) {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (2: 26) {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (5: 16) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (25: 52) وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَا كَانَ مِنِ اضْطِهَادِ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِ صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ لِجَزْمِهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ جَذْبِهِمْ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ إِلَّا حِمَايَتَهُ لِيُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سِرًّا، وَنَشَرُوا الدَّعْوَةَ فِي عَاصِمَتِهِمْ يَثْرِبَ، وَصَارَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَحْمُونَهُ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ. فَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ قَوَّتِهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا- مَعَ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ لَهَا- فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْوَحِيدِ الَّذِي كَانَ هُوَ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الِاخْتِلَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ- وَلَاسِيَّمَا مِنْهُ- كَافٍ لِإِسْلَامِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ الْهَادُونَ الْمَهْدِيُّونَ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْأَقْطَارِ، وَثَلِّ عُرُوشِ أَعْظَمِ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَعَظْمَةً وَنِظَامًا وَتَشْرِيعًا وَحَضَارَةً، وَتَبْدِيلِ مَمَالِكِهِمْ وَشُعُوبِهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ- مَا فَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعَاجِمِ فَقَدْ كَانَ بِتَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَالْعَجَمِ لِلدَّعْوَةِ، وَكَانَ بُرْهَانُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَسِيرَتِهِمُ الْحُسْنَى أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَلُ إِلَيْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، وَلَمْ يَنْتَشِرِ الْإِسْلَامُ فِي شَعْبٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِ، وَقِرَاءَتِهِمْ لِتَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ دَرَجَةُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَرْتَفِعُ فِيهِمْ بِقَدْرِ تَدَبُّرِهِمْ لَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِ لُغَتِهِ، فَكَانَ مِنْ مُتْقِنِي لُغَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَالِي كِبَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ، وَجَهَابِذَةُ عُلُومِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا، وَأَفْرَادُ الْعِبَادِ، وَنَوَابِغُ الْأُدَبَاءِ، وَفُحُولَةُ الشُّعَرَاءِ.
وَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمُ الصَّحِيحُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُثْلَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى طَلَبِ لُغَةِ الدِّينِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ حَاكِمٍ، وَلَا نِظَامِ تَعْلِيمٍ إِجْبَارِيٍّ تُؤَسَّسُ لَهُ الْمَدَارِسُ.
وَقَدْ تُرْجِمَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ بِأَشْهَرِ لُغَاتِ الشُّعُوبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَرْبِيَّةٍ وَشَرْقِيَّةٍ، فَكَانَتْ تَرْجَمَتُهُ مَثَارًا لِلشُّبَهَاتِ وَسَبَبًا لِلْمَطَاعِنِ، أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَثَارَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَلْ مِنَ الْخَطَأِ فِيهَا، وَذَلِكَ يُتَلَافَى بِالتَّرْجَمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي نَدْعُو إِلَيْهَا، وَإِنَّ سَبَبَ الطَّعْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سُوءَ قَصْدٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ أَيْضًا.
قلت: إِنِّي عَلَى عِلْمِي بِهَذَا أَقُولُ: إِنَّ التَّرْجَمَةَ أَكْبَرُ عَوْنٍ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ حَاذِقًا لَهَا رَاسِخًا فِيهَا، فَالْأَوَّلُ شَبِيهٌ بِمَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى مَنْ جَهْلِهِ بِاللُّغَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَتَكَلَّفُ الطَّعْنَ تَكَلُّفًا يُكَابِرُ بِهِ وِجْدَانُهُ، وَيُغَالِبُ ذَوْقَهُ وَبَيَانَهُ، فَيَجِيءُ طَعْنُهُ ضَعِيفًا سَخِيفًا، وَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلَ الْمَسْلَكِ. وَاضِحَ الْمَنْهَجِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الدِّفَاعُ عَنِ التَّرْجَمَةِ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، وَلَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً إِلَّا فِي بَعْضِ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ الْقَصِيرَةِ، دُونَ السُّورِ وَالْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ. بَلْ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ تَتَعَذَّرُ تَرْجَمَتُهَا بِمُفْرَدَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الْأُخْرَى تُؤَدِّي الْمُرَادَ مِنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا مُرَادِفٌ فِي لُغَةٍ أُخْرَى، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَغْنَاهُنَّ بِهَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ دَعْ مَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ فِي فُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَاتِ.

.تَعَذُّرُ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ:

قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِنَا الْجَزْمُ بِتَعَذُّرِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْلِمُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ، كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِهِدَايَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ، وَقَدْ تَحَدَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَرَبَ بِهَذَا الْإِعْجَازِ، وَتَحَدَّى الْمُسْلِمُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَثَبَتَ عَجْزُ الْجَمِيعِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَصَدَقَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (17: 88) وَالتَّرْجَمَةُ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِثْلَ الْأَصْلِ، فَالْآيَةُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَوْنًا وَمُسَاعِدًا لِبَعْضٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَرْدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ؟!.
وَإِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ مِنَ التُّرْكِ لِصَرْفِ قَوْمِهِمْ بِهَا عَنِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَتَقُومُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ لَيَنْخَدِعُونَ بِشُبَهَاتِ الْقَائِلِينَ بِتَرْجَمَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذْ قَدْ بَيَّنَّا لِلْفَرِيقَيْنِ عَدَمَ جَوَازِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَجَبَ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمَا الدَّلَائِلَ عَلَى عَدَمِ إِمْكَانِهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَلَا نَقْتَصِرُ عَلَى بَيَانِهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَقَطْ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّنَا نَعْنِي بِالتَّرْجَمَةِ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادَ مِنْهَا الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْآيَاتِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَا يُؤَدِّي مَعَانِيهَا وَتَأْثِيرِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى.
وَإِنَّ تَوْفِيَةَ هَذَا الْمَوْضُوعِ حَقَّهُ يَقْتَضِي تَأْلِيفَ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَلَكِنَّنَا نَكْتَفِي بِقَلِيلٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ تُغْنِي عَنِ الْكَثِيرِ، وَنَبْدَأُ بِالْمُفْرِدَاتِ، وَنُثَنِّي بِالْجُمَلِ ثُمَّ نُعَزِّزُهُمَا بِكَلِمَةٍ فِي الْأَسَالِيبِ.
أَمَّا الْمُفْرَدَاتُ: فَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا كِنَايَةٌ، وَكُلٌّ مِنْهَا إِمَّا لُغَوِيٌّ سَبَقَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، وَإِمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَمِنْهَا الْمُشْتَرَكُ الَّذِي وُضِعَ لِعِدَّةِ مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ تَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْهَا بِالْقَرَائِنِ. وَمِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالْأُصُولِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَقَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْجَمْعِ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَتَبِعْنَاهُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ وَحُرُوفِ مَعَانٍ، وَكُلٌّ مِنْهَا أَقْسَامٌ لِكُلٍّ مِنْهَا مَوَاقِعُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.